فصل: قال الألوسي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال أبو السعود:

{قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ} أي أُعطيتَ سُؤْلك، فُعْلٌ بمعنى مفعول كالخبز والأُكْل بمعنى المخبوز والمأكول، والإيتاءُ عبارةٌ عن تعلق إرادتِه تعالى بوقوع تلك المطالبِ وحصولِها له عليه السلام البتة وتقديرِه إياها حتمًا، فكلُّها حاصلةٌ له عليه السلام وإن كان وقوعُ بعضها بالفعل مترقبًا بعدُ كتيسير الأمر وشدِّ الأزْر، وباعتباره قيل: سنشُدّ عضُدَك بأخيك، وقوله تعالى: {ياموسى} تشريفٌ له عليه السلام بشرف الخِطاب إثرَ تشريفِه بشرف قَبول الدعاء.
وقوله تعالى: {وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ} كلامٌ مستأنَفٌ مَسوق لتقرير ما قبله وزيادةِ توطينِ نفس موسى عليه السلام بالقبولِ ببيان أنه تعالى حيث أنعم عليه بتلك النعمِ التامة من غير سابقةِ دعاءٍ منه وطلبٍ فلأَن يُنعِم عليه بمثلها وهو طالبٌ له وداعٍ أَوْلى وأحرى، وتصديرُه بالقسم لكمال الاعتناءِ بذلك أي وبالله لقد أنعمنا {مَرَّةً أخرى} أي في وقت غيرِ هذا الوقت لا أن ذلك مؤخّرٌ عن هذا فإن أخرى تأنيثُ آخَرَ بمعنى غير، والمرةُ في الأصل اسمٌ للمرور الواحدِ ثم أُطلق على كل فَعْلة واحدةٍ من الفَعَلات متعديةً كانت أو لازمة، ثم شاع في كل فرد واحدٍ من أفراد ما لَه أفرادٌ متجددةٌ متعددة فصار علمًا في ذلك حتى جُعل معيارًا لما في معناه من سائر الأشياء، فقيل: هذا بناء المرة، ويقرب منها الكرّةُ والتارَةُ والدفعةُ والمراد بها هاهنا الوقتُ الممتدُّ الذي وقع فيه ما سيأتي ذكرُه من المنن العظيمة الكثيرة وقوله تعالى: {إِذْ أَوْحَيْنَا إلى أُمّكَ مَا يوحى} ظرفٌ لمننّا والمرادُ بالإيحاء إما الإيحاءُ على لسان نبيَ في وقتها كقوله تعالى: {وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الحواريين} الآية، وإما الإيحاءُ بواسطة الملَك لا على وجه النبّوة كما أوحيَ إلى مريم، وإما الإلهامُ كما قي قوله تعالى: {وأوحى رَبُّكَ إلى النحل} وإما الإراءةُ في المنام والمرادُ بما يوحى ما سيأتي من الأمر بقذفه في التابوت وقذْفِه في البحر، أُبهم أولًا تهويلًا له وتفخيمًا لشأنه ثم فُسّر ليكون أقرَّ عند النفسِ، وقيل: معناه ما ينبغي أن يوحى ولا يُخَلَّ به لعِظم شأنه وفرْطِ الاهتمام به، وقيل: ما لا يُعلم إلا بالوحي وفيه أنه لا يلائم المعنيين الأخيرين للوحي إذ لا تفخيمَ لشأنه في أن يكون مما لا يُعلم إلا بالإلهام أو بالإراءة في المنام.
وأنْ في قوله تعالى: {أَنِ اقذفيه في التابوت} مفسِّرةٌ لأن الوحيَ من باب القول أو مصدريةٌ حُذف منها الباء، أي بأن اقذفيه ومعنى القذْفِ هاهنا الوضعُ وأما في قوله تعالى: {فاقذفيه في اليم} فالإلقاءُ، وهذا التفصيلُ هو المرادُ بقوله تعالى: {فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ في اليم} لا القذفُ بلا تابوت {فَلْيُلْقِهِ اليم بالساحل} لما كان إلقاءُ البحرِ إياه بالساحل أمرًا واجبَ الوقوع لتعلق الإرادةِ الربانية به جُعل البحرُ كأنه ذو تمييزٍ مطيعٍ أُمر بذلك وأُخرج الجوابُ مُخرجَ الأمر والضمائرُ كلُّها لموسى عليه الصلاة والسلام، والمقذوفُ في البحر والمُلقى بالساحل وإن كان هو التابوتَ أصالةً لكنْ لما كان المقصودُ بالذات ما فيه جُعل التابوتُ تبعًا له في ذلك {يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لّى وَعَدُوٌّ لَّهُ} جوابٌ للأمر بالإلقاء، وتكريرُ العدو للمبالغة والتصريحِ بالأمر والإشعارِ بأن عداوتَه له مع تحققها لا تؤثر فيه ولا تضرُه، بل تؤدي إلى المحبة فإن الأمرَ بما هو سبب للهلاك صورةً من قذفه في البحر ووقوعِه في يد عدو الله تعالى وعدوِّه مشعرٌ بأن هناك لُطفًا خفيًا مندرجًا تحت قهرٍ صوريّ، وقيل: الأولُ باعتبار الواقعِ والثاني باعتبار المتوقَّع وليس المرادُ بالساحل نفسَ الشاطىء بل ما يقابل الوسطَ وهو ما يلي الساحلَ من البحر بحيث يجري ماؤه إلى نهر فرعون، لما روي أنها جَعلتْ في التابوت قُطنًا ووضعتْه فيه ثم قيّرتْه وألقتْه في اليم وكان يشرَع منه إلى بستان فرعون نهرٌ صغير فدفعه الماءُ إليه فأتى به إلى بِرْكة في البستان، وكان فرعونُ جالسًا ثمّةَ مع آسيةَ بنتِ مُزاحِم فأُمر به فأُخرج ففُتح فإذا هو صبيٌّ أصبحُ الناس وجهًا، فأحبه عدوُّ الله حبًا شديدًا لا يكاد يتمالك الصبرَ عنه وذلك قوله تعالى: {وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مّنّى} كلمةُ مِنْ متعلقةٌ بمحذوف هو صفةٌ لمحبةً مؤكدةٌ لما في تنكيرها من الفخامة الذاتيةِ بالفخامة الإضافية، أي محبةً عظيمة كائنةً مني قد زرعتُها في القلوب بحيث لا يكاد يصبِر عنك من رآك ولذلك أحبك عدوُّ الله وآلُه. وقيل: هي متعلقةٌ بألقيت أي أحببتُك ومن أحبه الله تعالى أحبته القلوبُ لا محالة وقوله تعالى: {وَلِتُصْنَعَ على عَيْنِى} متعلقٌ بألقيتُ معطوفٌ على علة له مُضمَرةٍ، أي ليتعطّف عليك ولتربى بالحنوّ والشفقة بمراقبتي وحِفظي، أو بمضمر مؤخّرٍ هو عبارةٌ عما قبله من إلقاء المحبةِ، والجملةُ مبتدَأةٌ أي ولتصنع على عيني فعلتُ ذلك، وقرئ ولِتُصْنعْ على صيغة الأمر بسكون اللام وكسرها وقرئ بفتح التاء والنصب أي وليكونَ عملُك على عين مني لئلا يخالَفَ به عن أمري. اهـ.

.قال الألوسي:

{قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى (36)} أي قد أعطيت سؤلك ففعل بمعنى مفعول كالخبز والأكل بمعنى المخبوز والمأكول، والإيتاء عبارة عن تعلق إرادته تعالى بوقوع تلك المطالب وحصولها له عليه السلام البتة وتقديهر تعالى إياها حتمًا فكلها حاصلة له عليه السلام وإن كان وقوع بعضها بالفعل مرتبًا بعد كتيسير الأمر وشد الأزر وباعتباره قيل: {سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ} [القصص: 35] وظاهر بعض الآثار يقتضي أن شركة هرون عليه السلام في النبوة أي استنبائه كموسى عليه السلام وقعت في ذلك المقام وإن لم يكن عليه السلام فيه مع أخيه، فقد أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس أنه قال في قوله: {وَأَشْرِكْهُ في أَمْرِى} [طه: 32] نبىء هرون ساعتئذ حين نبىء موسى عليهما السلام، ونداؤه عليه السلام تشريف له بالخطاب إثر تشريف.
{وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ} استئناف مسوق لتقرير ما قبله وزيادة توطين لنفس موسى عليه السلام بالقبول ببيان أنه تعالى حيث أنعم عليك بتلك النعم التامة من غير سابقة دعاء وطلب منه فلأن ينعم عليه بمثلها وهو طالب له وداع أولى وأحرى.
وتصديره بالقسم لكمال الاعتناء بذلك أي وبالله لقد أنعمنا {مَرَّةً أخرى} أي في وقت غير هذا الوقت على أن أخرى تأنيث آخر بمعنى مغايرة.
و{مَرَّةٍ} ظرف زمان والمراد به الوقت الممتد الذي وقع فيه ما سيأتي إن شاء الله تعالى ذكره في المنن العظيمة الكثيرة.
وهو في الأصل اسم لمرور الواحد ثم أطلق على كل فعلة واحدة متعدية كانت أو لازمة ثم شاع في كل فرد واحد من أفراد ماله أفراد متجددة فصار علمًا في ذلك حتى جعل معيارًا لما في معناه من سائر الأشياء فقيل هذا بناء المرة ويقرب منه الكرة والتارة والدفعة.
وقال أبو حيان: المراد منه غير هذه المنة وليست {أخرى} تأنيث آخر بكسر الخاء لتكون مقابلة للأولى.
وتوهم ذلك بعضهم فقال: سماها سبحانه أخرى وهي أولى لأنها أخرى في الذكر.
{إِذْ أَوْحَيْنَا إلى أُمّكَ مَا يوحى} ظرف لمننا سواء كان بدلًا من {مرة} [طه: 37] أم لا، وقيل: تعليل وهو خلاف الظاهر، والمراد بالإيحاء عند الجمهور ما كان بالهام كما في قوله تعالى: {وأوحى رَبُّكَ إلى النحل} [النحل: 68] وتعقب بأنه بعيد لأنه قال تعالى في سورة القصص: {إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وجاعلوه مِنَ المرسلين} [القصص: 7] ومثله لا يعلم بالإلهام وليس بشيء لأنها قد تكون شاهدت منه عليه السلام ما يدل على نبوته وأنه تعالى لا يضيعه، والهام الأنفس القدسية مثل ذلك لا بعد فيه فإنه نوع من الكشف ألا ترى قول عبد المطلب وقد سمى نبينا صلى الله عليه وسلم محمدًا فقيل له: لم سميت ولدك محمدًا وليس في أسماء آبائك؟: إنه سيحمد، وفي رواية رجوت أن يحمد في السماء والأرض مع أن كون ذلك داخلًا في الملهم ليس بلازم.
واستظهر أبو حيان أنه كان ببعث ملك إليها لا على جهة النبوة كما بعث إلى مريم وهو مبني على أن الملك يبعث إلى غير الأنبياء عليهم السلام وهو الصحيح لكن قيل: عليه أنه حينئذ ينتقض تعريف النبي بأنه من أوحى إليه، ولو قيل: من أوحي إليه على وجه النبوة دار التعريف وأجيب بأنه لا يتعين ذلك.
ولو قيل: من أوحى إليه بأحكام شرعية لكنه لم يؤمر بتبليغها لم يلزم محذور.
وقال الجبائي: إنه كان بالإراءة مناما.
وقيل: كان على لسان نبي في وقتها كما في قوله تعالى: {وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الحواريين} [المائدة: 111] وتعقب بأنه خلاف الظاهر فإنه لم ينقل إنه كان نبي في مصر زمن فرعون قبل موسى عليه السلام.
وأجيب بأن ذلك لا يتوقف على كون النبي في مصر، وقد كان شعيب عليه السلام نبيًا في زمن فرعون في مدين فيمكن أن يكون أخبرها بذلك على أن كثرة أنبياء بني إسرائيل عليهم السلام مما شاع وذاع، والحق أن إنكار كون ذلك خلاف الظاهر مكابرة.
واختلف في اسم أمه عليه السلام مما شاع وذاع، والحق أن إنكار كون ذلك خلاف الظاهرة مكابرة.
واختلف في اسم أمه عليه السلام والمشهور أنه يوحانذ، وفي الاتقان هي محيانة بنت يصهر بن لاوى، وقيل: بارخا، وقيل: بازخت وما اشتهر من خاصية فتح الاقفال به بعد رياضة مخصوصة له مما لم نجد فيه أثرًا ولعله حديث خرافة، والمراد بما يوحى ما قصه الله تعالى فيما بعد من الأمر بقذفه في التابوت.
وقدفه في البحر أبهم أولًا تهويلًا له وتفخيمًا لشأنه، ثم فسر ليكون أقر عند النفس، وقيل: معناه ما ينيغي أن يوحى ولا يخل به لعظم شأنه وفرط الاهتمام به كما يقال هذا مما يكتب، وقيل: ما لا يعلم إلا بالوحي، والأول أوفق بكل من المعاني السابقة المرادة بالإيحاء إلا أنه قيل: عليه إنه لو كان المراد منه التفخيم والتهويل لقيل إذ أوحينا إلى أمك ما أوحينا كما قال سبحانه {فأوحى إلى عَبْدِهِ مَا أوحى} [النجم: 10]، وقال تعالى: {فَغَشِيَهُمْ مّنَ اليم مَا غَشِيَهُمْ} [طه: 78] فإن تم هذا فما قيل في معناه ثانيًا أولى فتدبر.
{أَنِ اقذفيه في التابوت}.
مفسرة لأن الوحي من باب القول أو مصدرية حذف عنها الباء بأن اقذفيه، وقال ابن عطية: {إن} وما بعدها في تأويل مصدر بدل من ما، وتقديم الكلام في وصل أن المصدرية بفعل الأمر، والمراد بالقذف هنها الوضع، وأما في قوله تعالى: {فاقذفيه في اليم} فالمراد به الإلقاء والطرح، ويجوز أن يكون المراد به الوضع في الموضعين، و{أَلِيمٌ} البحر لا يكسر ولا يجمع جمع سلامة، وفي البحر هو اسم للبحر العذب، وقيل: اسم للنيل خاصة وليس بصحيح، وهذا التفصيل هنا هو المراد بقوله تعالى: {فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ في اليم} [القصص: 7] لا القذف بلا تابوت {فَلْيُلْقِهِ اليم بالساحل} أي بشاطئه وهو الجانب الخالي عن الماء مأخوذ من سحل الحديد أي برده وقشره وهو فاعل بمعنى مفعول لأن الماء يسحله أي يقسره أو هو للنبس أي ذو سحل يعود الأمر إلى مسحود، وقيل: هو على ظاهره على معنى أنه يسحل الماء أي يفرقه ويضيعه؛ وقيل: هو من السحيل وهو النهيق لأنه يسمع منه صوت، والمراد به هنا ما يقابل الوسط وهو ما يلي الساحل من البحر حيث يجري ماؤه إلى نهر فرعون.
وقيل: المراد بالساحل الجانب والطرف مطلقًا والمراد من الأمر الخبر واختير للمبالغة، ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: «قوموا فلأصلِّ لكم» ولإخراج ذلك مخرج الأمر حسن الجواب فيما بعد، وقال غير واحد: إنه لما كان إلقاء البحر إياه بالساحل أمرًا واجب الوقوع لتعلق الإرادة الربانية به جعل البحر كأنه ذو تمييز مطيع أمر بذلك، وأخرج الجوا بمخرج الأمر ففي اليم استعارة بالكناية وإثبات الأمر تخييل، وقيل: إن في قوله تعالى: {فَلْيُلْقِهِ} استعارة تصريحية تبعية والضمائر كلها لموسى عليه السلام إذ هو المحدث عنه والمقذوف في البحر والملقى بالساحل وإن كان هو التابوت أصالة لكن لما كان المقصود بالذات ما فيه جعل التابوت تبعًا له في ذلك، وقيل: الضمير الأول لموسى عليه السلام والضميران الأخيران للتابوت، ومتى كان الضمير صالحًا لأن يعود على الأقرب وعلى الأبعد كان عوده على الأقرب راجحًا كما نص عليه النحويون، وبهذا رد على أبي محمد بن في دعواه عود الضمير في قوله تعالى: {فَإِنَّهُ رِجْسٌ} [الأنعام: 145] على لحم لأنه المحدث عنه لا على خنزير فيحل شحمه وغضروفه وعظمه وجلده عنده لذلك، والحق أن عدم التفكيك فيما نحن فيه أولى، وما ذكره النحويون ليس على إطلاقه كما لا يخفى {يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لّى وَعَدُوٌّ لَّهُ} جواب للأمر بالإلقاء وتكرير العدو للمبالغة من حيث أنه يدل على أن عداوته كثيرة لا واحدة، وقيل: إن الأول للواقع والثاني للمتوقع وليس من التكرير للمبالغة في شيء لأن ذلك فرع جواز أن يقال: عدو لي وله وهو لا يجوز إلا عند القائلين بجواز الجمع بين الحقيقة والمجاز، وأجيب بأن ذلك جائز وليس فيه الجمع المذكور فإن فرعون وقت الأخذ متصف بالعداوة لله تعالى وله في الواقع أما اتصافه بعداوة الله تعالى فظاهر؛ وأما اتصافه بعداوة موسى فمن حيث أنه يبغض كل مولود في تلك السنة، ولو قلنا بعدم الاتصاف بعداوة موسى عليه السلام إذ ذاك يجوز أن يقال ذلك أيضًا ويعتبر عموم المجاز وهو المخلص عن الجمع بين الحقيقة والمجاز فيما يدعى فيه ذلك.
وقال الخفاجي: إنه لا يلزم الجمع لأن {عَدُوٌّ} صفة مشبهة دالة على الثبوت الشامل للواقع والمتوقع.
ولا يخفى أن هذا قول بأن الثبوت في الصة المشبهة بمعنى الدوام، وقد قال هو في الكلام على تفسير قوله تعالى: {وَلاَ تَمْشِ في الأرض مَرَحًا} [الإسراء: 37]: إن معنى دلالتها على الثبوت أنها لا تدل على تجدد وحدوث لا أنها تدل على الدوام كما ذكر النحاة، فما يقال: إن {مَرَحًا} صفة مشبهة تدل على الثبوت ونفيه لا يقتضي نفي أصله مغالطة نشأت من عدم فهم معنى الثبوت فيها انتهى، على أن كلامه هنا بعد الاغماض عن منافاته لما ذكره قبل لا يخلو عن شيء.
ومما ذكره فيما تقدم من تفسير معنى الثبوت يعلم أن الاستدلال بهذه الآية على أن فرعون لم يقبل إيمانه ومات كافرًا كما هو الحق ليس بصحيح وكم له من دليل صحيح.
والظاهر أنه تعالى أبهم لها هذا العدو ولم يعلمها باسمه وإلا لما قالت لأخته {قُصّيهِ} [القصص: 11].
{وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مّنّى} كلمة {مِنْ} متعلقة بمحذوف وقع صفة لمحنوف مؤكدة لما في تنكيرها من الفخامة الذاتية بالفخامة الإضافية أي محبة عظيمة كائنة مني قد زرعتها في القلوب فكل من رآك أحبك بحيث لا يصبر عنك، قال مقاتل: كان في عينيه ملاحة ما رآه أحد إلا أحبه، وقال ابن عطية: جعلت عليه مسحة جمال لا يكاد يصبر عنه من رآه، روى أن أمه عليه السلام أوحي إليها ما أوحى جعلته في تابوت من خشب، وقيل: من بردى عمله مؤمن آل فرعون وسدت خروقه وفرشت فيه نطعًا، وقيل: قطنا محلوجًا وسدت فمه وجصصته وقيرته والقتة في اليم فبينما فرعون في موضع يشرف على النيل وامرأته معه إذ رأى التابوت عند الساحل فأمر به ففتح فإذا صبى أصبح الناس وجهًا فأحبه هو امرأته حبًا شديدًا.
وقيل: إن التابوت جاء في الماء إلى المشرعة التي كانت جواري امرأة فرعون يستقين منها الماء فأخذن التابوت وجئن به إليها وهن يحسبن أن فيه مالًا فلما فتحته رأته عليه السلام فأحبته وأعلمت فرعون طلبت منه أن يتخذه ولدًا، وقال: قرة عين لي ولك لا تقتلوه، فقال لها: يكون لك وأما وأنا فلا حاجة لي فيه.
ومن هنا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كما رواه النسائي وجماعة عن ابن عباس: «والذي يحلف به لو أقر فرعون بأن يكون قرة عين له كما قالت امرأته لهداه الله تعالى به كما هدى به امرأته ولكن الله عز وجل حرمه ذلك» وقيل: إن فرعون كان جالسًا على رأس بركة له في بستان ومعه امرأته فرأى التابوت وقد دفعه الماء إلى البركة من نهر يشرع من اليمن فأمر بإخراجه فأخرج ففتح فإذا صبي أجمل الناس وجهًا فأحبه حتى لا يكاد يصبر عنه، وروى أنه كان بحضرته حين رأى التابوت أربعمائة غلام وجار فحين أشار بأخذه وعد من يسبق إلى ذلك بالاعتاق فتسابقوا جمعيًا ولم يظفر بأخذه إلا واحد منهم فأعتق الكل، وفي هذا ما يطمع المقصر في العمل من المؤمنين برحمة الله تعالى فإنه سبحانه أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين، وقيل: كلمة من متعلقة بألقيت فالمحبة الملقاة بحسب الذوق هي محبة الله تعالى له أي أحببتك ومن أحبه الله تعالى أحبته القلوب لا محالة، واعترض القاضي على هذا بأن في الصغر لا يوسف الشخص بمحبة الله تعالى إياه فإنها ترجع إلى إيصال الثواب وهو إنما يكون للمكلف.
ورد بأن محبة الله تعالى عند المؤولين عبارة عن إرادة الخير والنفع وهو أعم من أن يكون جزاء على عمل أو لا يكون والرد عند من لا يؤول أظهر، وجوز بعضهم إرادة المعنى الثاني على القول الأول في التعلق وإرادة المعنى الأول على القول الثاني فيه، وزعم أن وجه التخصيص غير ظاهر وهو لا يخفى على ذي ذهن مستقيم وذوق سليم.
وقوله تعالى: {وَلِتُصْنَعَ على عَيْنِى} متعلق بالقيت على أنه عطف على علة مضمرة أي ليتعطف عليك ولتصنع أو متعلق بفعل مضمر مؤخر أي ولتصنع.. إلخ. فعلت ذلك أي إلقاء المحبة عليك، وزعم أنه متعلق بألقيت على أن الواو مقحمة ليس بشيء وعلى عيني أي بمراي مني متعلق بمحذوف وقع حالًا من المستتر في {تصنع} وهو استعارة تمثيلية للحفظ والصون فإن المصون يجعل بمرأى والصنع الإحسان، قال النحاس: يقال صنعت الفرس إذا أحسنت إليه.
والمعنى وليفعل بك الصنيعة والإحسان وتربى بالحنو والشفقة وأنا مراعيك ومراقبك كما يراعى الرجل الشيء بعينه إذا اعتنى به.
ويجعل ذلك تمثيلًا يندفع ما قاله الواحدي من أن تفسير {وَلِتُصْنَعَ على عَيْنِى} بما تقدم صحيح ولكن لا يكون في ذلك تخصيص لموسى عليه السلام فإن جميع الأشياء بمرأى من الله تعالى على أنه قد يقال: هذا الاختصاص للتشريف كاختصاص عيسى عليه السلام بكلمة الله تعالى والكعبة ببيت الله تعالى مع أن الكل موجود بكن وكل البيوت بيت الله سبحانه، وقال قتادة: المعنى لتغدى على محبتي وإرادتي وهو اختيار أبي عبيدة وابن الانباري وزعم الواحدي أنه الصحيح.
وقرأ الحسن وأبو نهيك {ولتصنع} بفتح التاء، قال ثعلب: المعنى لتكون حركتك وتصرفك على عين مني لئلا تخالف أمرى.
وقرأ أبو جعفر في رواية {وَلِتُصْنَعَ} بكسر اللام وجزم الفعل بها لأنها لام الأمر وأمر المخاطب باللام شاذ لكن لما كان الفعل مبنيًا للمفعول هنا وكان أصله مسندًا للغائب ولا كلام في أمره باللام استصحب ذلك بعد نقله إلى المفعول للاختصار، والظاهر أن العطف على قوله تعالى: {وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مّنّى} إلا أن فيه عطف الإنشاء على الخبر وفيه كلام مشهور لكن قيل هنا: إنه هون أمره كون الأمر في معنى الخبر.
وقال صاحب اللوامح: إن العطف على قوله تعالى: {فَلْيُلْقِهِ} فلا عطف فيه للإنشاء على الخبر.
وقرأ شيبة وأبو جعفر في رواية أخرى كذلك إلا أنه سكن اللام وهي لام الأمر أيضًا وبقية الكلام نحو ما مر.
ويحتمل أن تكون لام كي سكنت تخفيفًا ولم يظهر فتح العين للإدغام، قال الخفاجي: وهذا حسن جدًا. اهـ.